19 - 05 - 2025

عجاجيات | أصابع الزمن والرجل البركة

عجاجيات | أصابع الزمن والرجل البركة

مع مضى قطار العمر تظهر أصابع الزمن واضحة جلية على أجسامنا وعقولنا وشعورنا ومشاعرنا.. فى مرحلة الشباب كان الحماس والإقدام والنشاط الزائد إلى حد الفوران.. فى الشباب الأول كنا نجاهد لكبح جماح طاقتنا وتهذيبها والسيطرة عليها.. كنا نجري وراء أحلامنا وطموحاتنا ونقفز فوق الحواجز التى تعترضنا.

فى سنوات الشباب والفتوة وبدايات الحياة العملية سعيت وأجريت الاختبارات للالتحاق بعدة أعمال فى وقت واحد، كنت ابدأ يوم العمل فى الثالثة صباحا قبل الفجر وانطلق كالسهم من الشئون السياسية فى الإذاعة بماسبيرو إلى القسم الخارجى فى صحيفة المساء بشارع زكريا أحمد، ثم أعدو للإعلام الخارجى بالهيئة العامة للاستعلامات فى ٢٢ طلعت حرب، ومنها أنطلق إلى القسم العربى بوكالة رويترز بعمارة الإيموبيليا الشهيرة للتدريب على يد الاستاذين الكبيرين عاصم عبدالمحسن ومجدي عبدالعزيز، وأكمل اليوم بزيارة منزل خطيبتى فى مصر القديمة او التنزه معها فى وسط البلد ثم توصيلها إلى منزلها.. كنا نتحرك كفراشتين فى خفة ونشاط.

ومع مضى الأيام والسنين والعقود أصبحنا أكثر تعاونا لمواجهة أصابع الزمن وضغط الدم وخشونة الركبة وآلام أسفل الظهر، أستند على زوجتى وتستند على.. تساعدنى فى النهوض إذا أحست أن قدميّ لا تحملنى.. وأساعدها فى النهوض، نتساند على بعضنا البعض ونذهب للسوق لشراء مستلزمات البيت ولشراء أدويتنا التى أصبحت جزءا من حياتنا لا غنى عنه.. اختفت أو كادت كثير من مظاهر العلاقات فى شبابنا وعقود زواجنا الأولى، وزادت جرعة المودة والرحمة بيننا زيادة هائلة.. عيوننا الآن تقول كثيرا مما صمتت ألسنتنا وأجسادنا عن قوله.

الآن فقط وأنا فى الطريق لإتمام ٦٧ عاما فى عمري، أستطيع القول أننى فهمت كلمات جدتى مثل "ضل رجل ولا ضل حيط" ويجعل حسك فى الدنيا، وراجل بركة، والراجل راجل ولو عضم فى قفة.. أعترف بكل شجاعة أننى أصبحت رجل بركة بفعل أصابع الزمن.. أصبحت أقل نشاطا وأكثر حكمة.. أصبحت أتحرك قليلا وأفكر كثيرا.. أصبحت لا أنام إلا أقل القليل، وربما لأننى أعلم أنه سيأتى اليوم الذي سيطول فيه النوم.. أصبحت أكثر حبا وخوفا على أولادي وأحفادي.. وأصبحت أكثر مودة ورحمة على رفيقة حياتى وأكثر شفقة عليها عندما أراها تتحرك بصعوبة، خاصة عندما أعود بالذاكرة للوراء فلاش باك وأراها معى ونحن نجري سويا للحاق بالأتوبيس المتجه من أمام مجمع التحرير إلى جامع عمرو بن العاص، وأيضا وأنا أتذكر تحركها معى كفراشتين بين دور السينما ومطاعم وسط البلد.

حقا الشباب لا يدوم والفتوة لا تدوم والطاقة الفوارة لا تدوم.. والمؤكد أن مشاعر المودة والرحمة تدوم، والمؤكد أن العشرة تدوم وتتحدي أصابع الزمن والشعر الابيض والضغط والخشونة.. والمؤكد أن الأيام تمر وتدور بحلوها ومرها فلنستمتع بحلوها ونتكاتف ونتساند لمواجهة مرها.
--------------------------
بقلم - عبدالغني عجاج
من المشهد الأسبوعي



مقالات اخرى للكاتب

عجاجيات | إضراب عن الحكمة !